[ هذا المقال جزء من ”أصوات من أجل غزة" وهو ملف خاص“ تنشره جدلية على مدار شهر كامل. للإطلاع على بقية المقالات اضغط/ي هنا]
"شعبٌ يقرأ، شعبٌ لا يجوع ولا يُستعبد". أمين الزاوي
مقدمة
قامت إسرائيل منذ تأسيسها بممارسة أشكال مركبة من الاضطهاد في حق الشعب الفلسطيني، من تطهير عرقي ممنهج إلى تفرقة عنصرية ممأسسة إلى احتلال عسكري مباشر. وفي الفترة الأخيرة تفتق العقل الصهيوني القمعي عن أسلوب جديد يقوم على أساس السيطرة الكاملة على السعرات الحرارية التي يُسمح للمواطن الفلسطيني في غزة باستهلاكها، أي التجويع حتى حافة الموت. وهذا ما يميز أحد أوجه الحصار الاقتصادي الذ ي تفرضه على القطاع في إطار منظومة صارمة من العقاب الجماعي. وقد بدأ الحصار متعدد الأوجه منتصف عام 2007، وإن كان هناك من يؤرخ له منذ بداية 2006 عندما سُمح لثلث الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة بالتوجه إلى صناديق الاقتراع والتصويت لمجلس تشريعي جديد. ولا شك أن هناك علاقة مباشرة بين نتائج هذه الانتخابات والحصار الذي قررت إسرائيل بمشاركة الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وبعض الأنظمة الرجعية العربية، فرضه على قطاع غزة. من الواضح أن استهداف القطاع كان نتيجة تصويت الكثيرين من سكانه لصالح الطرف غير المرغوب به. ولكن من التبسيط الشديد حصر أسباب الحصار في انتخاب حركة حماس لإدارة (عبء) الشؤون اليومية في الضفة وغزة. فنتائج تلك الانتخابات كانت تصويتاً واضحاً ضد خيارات النخبة الفلسطينية الحاكمة من سلطة فلسطينية ومنظمة تحرير، تلك الخيارات التي أعادت تعريف الشعب الفلسطيني برمته وصغرت الأهداف التحررية إلى إقامة بانتوستان في إطار ما اتفق على تسميته بحل الدولتين. بمعنى أن نتائج انتخابات المجلس التشريعي عام 2006 أوضحت أن الأغلبية من سكان الضفة الغربية وغزة صوتوا ضد اتفاقيات أوسلو و توابعها، وليس بالضرورة تأييداً كاسحاً لحركة حماس التي عجزت عن فهم ذلك لأسباب تتعلق بانغلاقها الفكري والأيديولوجي.
ولا زال الحصار الخانق مستمراً للسنة السابعة على التوالي، بل إنه يزداد سوءاً. وكان المقرر الخاص للأمم المتحدة، ريتشارد فولك، قد وصفه في بداياته بأنه "مقدمة لإبادة جماعية." فهو نوع من العقاب الجماعي المخالف بشكل صارخ للبنود 33 و55و56 من معاهدة جنيف الرابعة التي تفرض على القوة المحتلة، إسرائيل في هذه الحالة، أن توفر الطعام والأدوية لمن تحتلهم. وكانت المفوض العام السابقة للأونروا والخبيرة القانونية في جرائم الحرب، كارين أبو زيد، قد عقبت على ذلك بأن "غزة على وشك أن تصبح أول منطقة في العالم تتم معاقبتها بالعوز الشديد بعلم وتواطؤ، وقد يقول البعض، تشجيع المجتمع الدولي."
كل ذلك تطلب العمل على أساليب نضالية خلاقة لكسر الحصار تأخذ بعين الاعتبار الأسباب الحقيقية التي جعلت إسرائيل تطور أدواتها القمعية لنصل إلى ما نحن عليه الآن. ولكن في نفس الوقت اتضح وجود عجز عند بعض القوى السياسية الرئيسية الفلسطينية في التعامل معه. بل أن التيار السياسي الحاكم في غزة لا زال عاجزاً عن الخروج من عباءته الأيديولوجية التي ترى في أسلوب الصدقات والحسنات أنجع الطرق المقاومة التي يجب اتباعها.
وأصبحت زيارة وفد من دولة إسلامية، أو حتى أوروبية، "انتصاراً" كبيراً، مع أن تراكم التضحيات التي تُوجت باستشهاد المتضامنين الأتراك على متن أسطول مرمرة لم يتم استثمارها في السياق التحرري العام. بمعنى أن ما طرحته وسائل كسر الحصار البديلة، إذا صح التعبير، من ضرورة ربط هذه المحاولات بالنضالات الفلسطينية المتعددة، وإضافتها إلى إنجازات المقاومة الشعبية متعددة الأوجه، لم يتم الاستفادة منه على الصعيد الرسمي على الإطلاق بل تمت محاربته بطريقة إقصائية هي في المحصلة النهائية انعكاس لفكر لا يرى إمكانية "للصلح" مع "الآخر" الوطني!
من الضروري في هذا السياق التذكير أنه لم يتم تسجيل أية محاولة جادة من قبل الأطراف الوطنية الفلسطينية الأخرى، بالذات الفصيل الحاكم فيما اصطُلح على تسميته بـ"الشطر الآخر" من "الوطن"-البانتوستان. بل على العكس من ذلك، فقد تم استخدام الخلافات الفصائلية البغيضة، وبالتوافق مع نهج أوسلو، لترسيخ الحصار وتعزيزه من خلال تخطي ما كان يعتبر "خطوطاً حمراء." فما بين مطرقة التعصب الفكري الإقصائي وسنديان التنسيق الأمني، أصبح إصبع اللوم يوجه إلى أهل غزة أنفسهم. وتكررت أزمات الدواء والكهرباء والوقود بعوامل ذاتية، مع إغلاق شبه دائم من قبل قوات الاحتلال للمعابر الـ 6 التي تسيطر عليها، وإغلاق مصري لمعبر رفح الحدودي.
وتحاول هذه المقالة التطرق لأمثلة مختلفة وبديلة من محاولات كسر الحصار، مع التركيز على السياق الذي تمت به. وهي محاولة نقدية تأخذ بعين الاعتبار أن أية أداة نضالية تسعى لضرب الحصار يجب أن تربط بينه وبين حقيقة أن قطاع غزة مكتظ بأكبر عدد من اللاجئين الفلسطينيين الذين كفلت لهم الشرعية الدولية حق العودة، وأن هذا هو في التحليل النهائي سبب معاناة القطاع على أيدي الاحتلال الاسرائيلي، وأن هذا الشكل القمعي هو جزء من منظومة الاضطهاد الصهيوني متعددة الأشكال المرتبطة ببعضها بعضاً. وبالتالي فإن كون سكان غزة لم يولدوا لأمهات يهوديات "يؤهلهم" لمعاملة عنصرية ”تتخطى“ ما عاناه سكان جنوب أفريقيا السود إبان التفرقة العنصرية وسكان أمريكا من أصل أفريقي. وعليه فإن الأدوات النضالية المتبناة للتخلص من الحصار القروسطي الصهيوني لا يمكن فصلها عن السياقات النضالية الأخرى وبالذات تلك التي تنتهج الكفاح الشعبي الشامل غير الإقصائي.
***
قامت منظمة (كود بينك) النسوية الأمريكية بتنسيق العديد من زيارات كسر الحصار المفروض على غزة بعد الحرب الهمجية التي قامت بها قوات الاحتلال الإسرائيلي عام 2009. وفي منتصف ذلك العام قامت المجموعة باصطحاب الكاتب والباحث المعروف نورمان فنكلستاين، مؤلف العديد من الكتب والمعروف "بتأييده" للقضية الفلسطينية من منظور”يساري صهيوني“، أي أنه يؤيد حل الدولتين المبني على أساس حدود 1967، مع التغاضي عن حق عودة اللاجئين وعدم المطالبة بالمساواة الكاملة لفلسطينيي 48. وقد أثمرت زيارته لغزة عن كتاب بعنوان (لقد تمادينا هذه المرة في غزة)، وعن اقتراح بالتحضير لمسيرة عالمية في الذكرى السنوية الأولى للمجزرة، مسيرة تضم الآلاف من المتضامنين والفلسطينيين تتوجه إلى المعابر التي تفصل القطاع عن إسرائيل، وبالذات إلى معبر بيت حانون. وقامت منظمة (كود بينك) بتبني الفكرة والترويج لها من خلال إرسال رسائل لحركات التضامن الدولية ومؤسسات المجتمع المدني التي قامت بدورها بالاتصال ببعض الناشطين الفلسطينيين للاستشارة. وبالاطلاع على النسخة الأولى من النداء الذي صيغ على يد فنكلستاين، والذي كان قد حصل على القليل من التوقيعات الفلسطينية المتسرعة، كان رأي النشطاء، الذين تمت استشارتهم بصفتهم الشخصية، أن مبدأ كسر الحصار من خلال إرسال وفود تضامنية إلى القطاع الصامد، الذي كان يلعق جراحه بعد فقدانه أكثر من 1400 شهيد و تدمير بنيته التحتية، لا يمكن الاختلاف عليه. ولكنه، وبسبب التضحيات الهائلة والتراكمات النضالية، يجب ألا يأتي بمعزل عن أشكال المقاومة المدنية الأخرى، وفي مقدمتها المقاطعة وعدم الاستثمار وفرض عقوبات على إسرائيل. كما أنه يجب، حسب رأي النشطاء، التنويه في النداء إلى أن ثلثي سكان القطاع المحاصر والمدمر هم لاجئون كفلت لهم الشرعية الدولية حق العودة والتعويض تبعاً لقرار الأمم المتحدة 194.
وتكمن النقطة الخلافية الجوهرية بين ما اقترحه النشطاء الفلسطينيون والنسخة الأولى من نداء مسيرة غزة نحو الحرية الذي صيغ على يد نورمان فنكلستاين في أساس تعريف القضية الفلسطينية، وليس في توابعها، وفي أنجع الطرق النضالية للوصول إلى حل عادل يأخذ في الأساس معاناة المضطهَد (بفتح الهاء) المحاصر، و المستعمَر (بفتح الميم). فمن وجهة نظر فنكلستاين تكمن المشكلة في احتلال إسرائيل للضفة الغربية و قطاع غزة، أي 22% من أرض فلسطين التاريخية، وبناء عليه فإن الحديث عن حق عودة اللاجئين والمساواة الكاملة هو طرح "طوباوي" إقصائي!"، مبني على "أيدولوجية ستالينية!" كما أن أفضل أدوات النضال تكمن في الاعتماد على تفسيره للقانون الدولي الذي، حسب فنكلستاين، يؤكد أن احتلال إسرائيل للضفة والقطاع غير قانوني. أما التطرق لجريمة التطهير العرقي التي ارتكبت عام 48 واعتبارها أساس المشكلة، والتمييز العنصري الممارس ضد فلسطينيي 48 نتيجة لذلك (!) فهو طرح "غير واقعي"، ويزيد المشكلة تعقيدًا! وبالتالي فإن حصار غزة هو نتاج الاحتلال الذي بدأ عام 1967، وأية محاولة لفك هذا الحصار يجب أن تأتي من خلال فصل "مشكلة" غزة عن كل ما نتج عن عملية التطهير العرقي قبل عام 1948، وباتباع أساليب غاندية، لا عنفية، من دون التطرق بأي شكل من الأشكال للدعوة لمقاطعة إسرائيل، وعدم الاستثمار فيها، وفرض عقوبات عليها التي يأخذ فنكلستاين موقفاً معادياً منها بشكل فج يثير الكثير من علامات الاستفهام!
وفي المقابل كان رأي النشطاء الفلسطينيين، الذين تمت استشارتهم، أن أي مجهود دولي متضامن مع الشعب الفلسطيني ويهدف لإنهاء الحصار المفروض على قطاع غزة يجب أن ينطلق من سياق النضالات الفلسطينية المتعددة والمتراكمة منذ عام 48، والأخذ بعين الاعتبار أن القطاع قد تحول من بانتوستان (معزل عرقي) ومعسكر لاجئين كبير إلى أكبر سجن مفتوح على سطح الكرة الأرضية نظراً لاحتوائه على أكبر عدد من اللاجئين. و أصر النشطاء على أن المقاومة الشعبية المتجذرة في التاريخ الفلسطيني، والمفتوحة على نضالات الشعوب الأخرى، تعد رافداً هاماً، بل أساسياً، في دعم وسائل كسر الحصار، براً أو بحراً، و أن أهم أسلوب نضالي مدني في المرحلة الحالية يكمن في الدعوة والعمل على مقاطعة إسرائيل على نمط ما حصل ضد نظام التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا. وبالتالي فإن نداء مسيرة غزة نحو الحرية يجب أن يتضمن إشارة لنداء المقاطعة الفلسطيني الصادر عام 2005، ذلك النداء الذي يتمحور حوله إجماع فلسطيني. وانسحب نورمان فنكلستاين نتيجة لتبني اللجنة التوجيهية لمسيرة غزة نحو الحرية التعديلات التي اقترحها النشطاء الفلسطينيون.
وكانت هذه التجربة درساً كبيراً لنا في غزة، بشكل خاص، من حيث أنها أوضحت لنا، ولكل من عايشها، أن التضامن الدولي يجب أن يكون داعماً للنضال الفلسطيني و ليس موجهاً له! وأن زمن إلقاء المحاضرات علينا قد ولى! والدرس الثاني يكمن في أن الشوط الكبير الذي قطعته المقاومة الشعبية الفلسطينية، وفي مقدمتها حملة المقاطعة التي تحقق إنجازات ملموسة في عزل دولة إسرائيل بسبب ممارساتها من احتلال واستيطان وتطهير عرقي وتفرقة عنصرية، لا يمكن التفريط به بأي شكل من الأشكال. والدرس الثالث هو أن حصار قطاع غزة، والعمل على كسره، يأتي في إطار سياقات ترجع بجذورها لعام 48، مع الأخذ بعين الاعتبار التحولات الهائلة التي حصلت خلال هذه الفترة.
وبناء عليه، ومن منطلق النقد الذاتي الفلسطيني، فإن تصويرالحصار القروسطي على أنه قضية إنسانية بحتة يمكن ”حلها“ من خلال إرسال بعض القوافل المحملة بالطعام والأدوية، ومن منطلق الإحسان، وأحيانا التسول، وإن كانت النوايا طيبة، يحتاج إلى مراجعة نقدية جذرية، ستكون بالضرورة مؤلمة للبعض منا، بالذات القوى السياسية اليمينية التي تعتبر مبدأ الصدقة التي تأتي للقطاع "إنجازاً وطنياً كبيراً" ومن منطلق ديني تصغيري، والتيار اليميني العلماني الذي يعتبر التودد لبعض القوى الدولية و/أو العربية والحصول على بعض الفتات "دعماً للمشروع الوطني الفلسطيني!" ناهيك عن بعض المنظمات الأهلية ذات الخلفية الستالينية، المتحولة إلى نيوليبرالية، وغير المعنية إلا بالدعم المالي الغربي الذي تقتات عليه.
وفي هذا السياق النقدي، فان العديد من قوافل فك الحصار التي تستطيع الوصول للقطاع الصامد تحتاج إلى توجيهات تأخذ في الحسبان أن القطاع برمته محاصر، بسكانه الذين تعدوا الـ 1.8 مليون نسمة، بتياراته السياسية والأيديولوجية المتعددة والمختلفة، بمؤسسات مجتمعه المدني من نقابات وجامعات ومؤسسات ثقافية وتعليمية. بمعنى أن الحصار متعدد الأوجه وليس فقط مادياً (صحي، غذائي...إلخ)، بل أيضاً، وهنا مكمن الخطر، ثقافياً يستهدف العقل الفلسطيني المتمرد بهدف تجويعه ثقافياً مما يمكِّن تطويعه ومن ثم استعباده. إن التركيز على شكل واحد من أشكال الحصار والعمل، بوعي أو بدون وعي، على تصويره، من منطلق أيديولوجي ضيق، على أنه صراع بين فئة فلسطينية واحدة، والاحتلال الصهيوني، ينم عن فهم تصغيري للقضية الفلسطينية برمتها، فهم حول المقاومة بأشكالها المتعددة إلى أسلوب واحد موسمي نخبوي يتعالى على النضالات الشعبية الهائلة التي أبدعها الشعب الفلسطيني، بل تعايش في مرحلة ما مع الحصار واستفاد منه مادياً من خلال دعمه لطبقة ريعية غير منتجة أسست رأسمالها على تجارة الأنفاق واحتكار سوق البضائع المهربة من خلالها من اسمنت ووقود وخلافه.
ومن المعروف أن اتفاقيات أوسلو (1993) جاءت، من وجهة النظر الإسرائيلية، لتضرب حق الفلسطينيين في تقرير المصير، الحق المرتبط جدلياً بعودة اللاجئين وتعويضهم، والحق في الحرية والمساواة الكاملة. ونجحت أوسلو في تصغير القضية الفلسطينية، بعد تجزئتها، إلى حق "الاستقلال" على 22% من أرض فلسطين الانتدابية. وهنا تكمن قوة جرثومة أوسلو، حيث تم تبني برنامج ”اليسار الصهيوني“ من قبل الطرف المضطهَد في المعادلة، برنامج نناضل من أجل تحقيقه باسم ”الواقعية“ و“فهم متطلبات المرحلة“ إلخ. وتفشت عدوى أوسلو لتضرب، وبشكل سريع، برامج بعض الفصائل التي أبدت معارضة شديدة لهذه الاتفاقيات عند توقيعها من خلال رفضها المشاركة في انتخابات المؤسسات المنبثقة عن هذه الاتفاقيات، وبالذات المجلس التشريعي، على أساس مواقف بدت في حينها "مبدئية" من رفض كامل للأسس التي بنيت عليها هذه الاتفاقيات. ولكن بعد 12 عامًا من توقيع أوسلو، تم التحول والقبول بنتائجها من نفس منطلق "الواقعية" التي حوربت سابقاً!
ويأتي هذا التحول في المواقف السياسية، من حيث القبول بدولة على حدود 67 (مع أو بدون هدنة) ليعبر عن توجه لا يمكن تجاهله مطلقاً. فاليسار الفلسطيني الستاليني، المتحول إلى نيوليبرالي، تمت تهيئته، والتيار الرئيسي من اليمين الديني وقع في فخ "الاستقلال" على حساب التحرير، و تصنيم فكرة الدولة ”المستقلة“، وإن كان بغطاء أيديولوجي ضيق. وقد تطلبت هذه التحولات العمل على تغيير ”العقل الفلسطيني“ من عقل مقاوم، بالمعنى الشامل للكلمة، إلى ”عقل“ أوسلوي، براغماتي، تفريطي إلخ أو إلى عقل منغلق يعاني من بارانويا أمنية، سياسية وأيديولوجية.
هذا هو السياق العام الذي يجب التطرق إليه عند مناقشة أفضل الطرق لكسر الحصار المفروض على قطاع غزة من بيت حانون شمالاً إلى رفح جنوباً. وبربط تحرير ”العقل الفلسطيني“، من خلال كسر الحصار الثقافي المرعب، مع الأهداف التي تسعى لتحقيقها حملة المقاطعة الفلسطينية من حرية وعودة ومساواة. فالقضية ليست محصورة فقط في رفع الحصار، مع الأهمية القصوى لهذا الفعل النضالي، ولكن أيضاً في دوره في دعم السياق النضالي العام الذي يؤدي في المحصلة النهائية لتحقيق الأهداف الفلسطينية التحررية المتفق عليها بالإجماع.
ومن هنا تأتي أهمية وسائل كسر الحصار البديلة. فإقامة احتفالية فلسطين للأدب للمرة الأولى في قطاع غزة والمبادرة بتأسيس الحملة الدولية لفتح معبر رفح، كمثالين فقط، يأتيان كاستمرارية لنفس النهج الذي اتبع في مسيرة غزة نحو الحرية. في كلتا الحالتين قام النشطاء الفلسطينيون بالإصرار على أن يكون هناك تبني كامل من قبل المتضامنين لنداء المقاطعة الفلسطيني بلا أي لبس حيث أن إسرائيل تعتبر التنامي الكبير لحملة المقاطعة "خطراً استراتيجياً"عليها. ومن أبجديات النضال الوطني التحرري، بشكل عام، اكتشاف نقاط الضعف لدى المحتل المستعمِر، والتركيز على ضربها بكل قوة. فهل يحصل نفس الشيء، بشكل واع، مع قوافل كسر الحصار الأخرى، التي تحول الكثير منها، كما أشرنا، إلى فعل إحسان، في كثير من الأحيان ديني وأحياناً أخرى ليبرالي، لا يتخطى الشعور بالرضى عن النفس لدى المتضامن الذي يعود لحياته العادية بعد زيارة غزة.
وفي هذا السياق لابد من ذكر بعض الأمثلة الملموسة التي إن دلت على شيء فهو أن بعضنا لا زال يفتقد الرؤية التي تميزت بها الثورات وحركات التحرر قبل عصرالأنجزة المابعد حداثي والنظرات الأيديولوجية الضيقة. فقد رفضت إحدى النقابات التوقيع على نداء مسيرة غزة نحو الحرية لأن البيان يطلب من الحكومة المصرية فتح معبر رفح بذريعة أن هذا "يحرف البوصلة"، على الرغم من أن فتح المعبر كان سيؤدي بالضرورة الى كسر الحصار ورفع سقف الإنجازات النضالية.
و المثال الثاني هو السماح للموسيقار الإسرائيليي دانيل بارنبوم بالعزف في غزة و توفير حراسة له وتصوير زيارته على أنها كسر للحصار، على الرغم من كونها فعلاً تطبيعياً فاضحاً تبعاً لتعريف التطبيع الذي يتمتع بإجماع فلسطيني. فهل هذا الفعل التطبيعي يقارن بالتضامن الثقافي الفعال من شخصيات أدبية مرموقة تبنت نداء المقاطعة الأكاديمية والثقافية؟!
إن الفارق بين نسخة البيان الأول الذي صاغه نورمان فنكلستاين لمسيرة غزة نحو الحرية وبيان احتفالية فلسطين للأدب شاسع، وبينهما تأتي بيانات ومحاولات خلاقة لكسر الحصار، ولكن في سياق نضالي تحرري غير إقصائي على أسس أيديولوجية أو سياسية. ما تميز به المشاركون/ات في الاحتفالية الذين أصروا على لقاء نشطاء المقاطعة وممثلي النقابات والمجتمع المدني، وقاموا بثلاث زيارات لخيمة التضامن مع الأسرى، و سيروا ما يعادل 16 ساعة من ورش العمل لطلابنا وطالباتنا في 4 جامعات وطنية، ومثلها في مؤسسات و مدارس في رفح و جباليا وغنوا لفلسطين، وأقاموا أمسيات ثقافية، وبدأوا بمناقشة إمكانية تأسيس الحملة المصرية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية، وهو اقتراح في غاية الأهمية لما نعرفه عن ثقل مصر الدولي، هو أن غالبيتهم، إن لم يكن كلهم، معارضون لاتفاقيات كامب ديفيد، و مؤيدون لمطالب الثورة المصرية المجيدة من حرية و عدالة اجتماعية، ولكن مع الاصرار على ربط هذه المطالب بالهم الفلسطيني. وما كان الاعتداء العنيف على فعاليات احتفالية الأدب الأولى إلا انعكاساً لفكر يعاني من ضيق في الأفق من أي محاولة نقدية، أو في أسوا الحالات تجسيدًا لرفض أي فعالية لا تمر من تحت عباءة الإتجاه الحاكم.
ما نصر عليه كنشطاء مقاطعة مستقلين، من مشارب فكرية متنوعة، هو الربط بين أشكال النضال المتعددة والتعامل مع الأشكال المختلفة للحصار بعيدأ عن الصدقات التي حولت القضية الفلسطينية برمتها الى قضية إحسان. إن كسر الحصار الثقافي والأكاديمي لا يمكن التغاضي عنه كما يحصل الآن، فمن الملاحظ أن بيان جمعية الدراسات الأمريكية بتبني نداء المقاطعة الأكاديمية لإسرائيل يتطرق إلى معاناة أكاديميي وطلاب غزة كحافز أدى إلى القرار التاريخي الذي اتخذته الجمعية، وقبلها جمعية الدراسات الآسيوية، وبعدها جمعية دراسات السكان الأصليين. و كل هذا يأتي بعد قرار أهم عالم فيزياء في العالم، ستيفن هوكنجز وجمعية أساتذة إيرلندا، تبني نداء المقاطعة. كل هذا جاء استجابة للنداءات الفلسطينية، وعلى رأسها نداء المقاطعة الأكاديمية والثقافية، في الوقت الذي نسمح لمنظمات أمريكية تطبيعية بالعمل في مؤسساتنا الأكاديمية في غزة!
وعلى العكس من ذلك فإن كل الذين جاءوا بالتنسيق مع حملات المقاطعة تميزوا بوعي مقاوم لكل أشكال التطبيع، يأتون إيماناً بمقولة المفكر الفلسطيني الكبير إدوارد سعيد عن وجوب مواجهة "ثقافة القوة" من خلال ”قوة الثقافة“. الثقافة المقاومة، الشاملة، غير الإقصائية، التي تهدف الى الحرية والعدالة والمساواة.